"غرفة تخصها وحدها" نساء غزة واستباحة الدم والحيز الإنساني!

تقول فرجينيا وولف أنه إذا أرادت امرأة أن تكتب الأدب فيجب أن تكون لها غرفة تخصها وحدها وبعض المال؟! " انتهى الاقتباس.. ماذا إذا أرادت امرأة فلسطينية في غزة الآن أن تمارس فعل الحياة.؟! ماذا إذا أرادت امرأة واحدة أن تواجه الحياة في مخزن تابع لوكالة الأونروا المكان الوحيد الذي لجأت له من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب نازحة مع عائلتها وعائلات الحي بأكمله؟؟! ماذا إذا أرادت آلاف النساء الغزيات الآن والفتيات أن يعشن ساعة واحدة بدون قصف، قتل، تشريد، تدمير، ذبح لأطفالهن أمام العالم؟؟!! ماذا إذا أرادت النساء والفتيات والطفلات النجاة وليس غرفة خاصة للحياة أو الكتابة.؟!

أعتذر ككاتبة لوولف فهي لم تر مظاهر الإبادة الجماعية التي طغت على الأدب والثقافة والعقل والتي تمارس بحق الشعب الفلسطيني لم يكن في تخيل أي أديب أو كاتب أن مذابح بحق النساء والأطفال ستسحقهم من الآلة العسكرية الإسرائيلية الأمريكية في وضح النهار والممتدة من عشرين يوما.. ألفين وتسعمائة وثلاثة عشر طفلا أصبحوا ملاكا يحلق في السماء الأولى ودماؤه تسيل على وجوه الأحياء منهم.. ألف وسبعمائة وتسع شهيدة فلسطينية مقتولة مضرجة بدمائها أو مدفونة تحت رماد بيتها المحترق بفعل صواريخ الكفر والحضارة الكاذبة وسريالية حقوق النساء اللامرئية في غزة..  ستمائة وستون عائلة فلسطينية أزيلت من الوجود أزالوها بقنابل وصواريخ أمريكية بينما المجتمع الدولي لازال يمارس مؤامرة التعامي، ألفي مفقود قد يكون على قيد الحياة/الموت لازال بين أنقاض البيوت المسفوكة بفعل قنابل الاحتلال الإسرائيلي، البيوت المسفوكة التي قتلت كما أصحابها تزيد عن ستة آلاف وخمسمائة بيت مدمر في غزة ورفح وخان يونس وبيت لاهيا وبيت حانون ودير البلح والبريج والمغازي، وهدمت تسع وعشرون ألف وحدة سكنية، كم من القنابل المتفجرة التي ألقتها الطائرات الحربية المسعورة "اثني عشر ألف طن" من القنابل العمياء ألقيت على مليوني إنسان ونصف يعيش في قطاع غزة على بيوته وشوارعه حدائقه ومدارسه ومستشفياته في كل مكان ألقيت قنابل الحقد الإسرائيلية لتفتك باللحم الطري وتطحنه ثم تكذب وتكذب..!! الأمم المتحدة تقول لا مكان آمن في غزة!! من أين سأجد غرفة خاصة للنساء كل نساء مدينتي كاتبات شاعرات وكوميديات نعم يتقن الكوميديا السوداء، يحببن الحياة ما استطعن إليها سبيلا.. يلقين السلام للعابرين يضحكن لكل طفل وشاب بدأ يكبر على أيديهن.. يقلن يا ابني ويا خالتو ويا عمتو لكل من يمر بطريقهن.. يوزعن الحنان والحب لكل من يقابلهن ويضحكن كثيرا فقد نزف عمرهن كمدا وقهرا..

تلقين الفقد وكن ضحايا ورفضن أن يقال لهن ضحايا، أصبحن داعمات ومحفزات وناجيات لعدة مرات.. ماذا تقول الناجية في كتاب العالم الأبيض المحفور بمداد الأحمر القاني من دم أطفالهن يكتبن، ألسن كاتبات للنزف الدامي ألسن شاعرات حين يتمنين أن يطلع الصباح فقد أذاب الليل قلوبهن قهرا وكمدا وفزعا..

أليست نساء غزة كالأقمار التي لازالت مضيئة يناجين ألا تنطفئ أقمارهن فمئات الأطفال في أحضانهن، وآلاف الأرواح الصغيرة لازالت تتشكل في رحمهن؟!! أليست نساء غزة أجمل النساء وأكثرهن أدبا وابداعا، ففوق ركام البيت المدمر يشعلن النيران الصغيرة يأخذن من قلوبهن شعلة ليضعن عدسا للأفواه التي تتضور جوعا، ألسن من يحملن الهم والغم في أماكن الإيواء وفي الشارع ووسط الدمار المميت؟؟!! ألسن من يطبع قبلة على جبهة زال نصفها وقت الوداع الأخير، ثم يبتسمن ويمضين بكل عنفوان فلازال هنالك أحياء وجب احتضانهم؟!!

هل هنالك حقا حضن أكبر من حضن نساء غزة، قلب أكثر اشتعالا من قلوبهن؟!! فزعات الموت ودوي الانفجارات القاتلة وأصوات الانهيارات للبيوت والصراخات التي تملأ المشهد من يحتمل هذا الفزع العظيم؟ نساء وأطفال لقد طق الشعر شيبا، وطقت بعض القلوب لم تحتمل هذه المجازر وفاء الشابة الجميلة لملمت أشلاء عمها من بين الركام، ونجت لتنقذه وتجمعه كي يكون هنالك جثمان يمكن أن يضمده كفن أبيض عله يبرد نار الأهل بجنازة وقبر وشاهد، وفاء فزع قلبها بعد أن جمعت أشلاؤه وفي ساعات معدودة طق قلبها الندي فزعا وسقطت شهيدة الخوف.!! من قال إن قلوب نساء غزة من فولاذ، ويحكم إنها قلوب رقيقة شفافة كم من قلب حالم كقلب وفاء سيطق في وجه العالم والأمنيات الصغيرة تتدحرج.. لو دفنتم أشلاءنا من سيدفن أرواحنا الفزعة من وحشية القتلة المسؤولين.!! أليست نساء غزة حالمات يكتبن الموت بأنفاسهن وركضهن من بيت لبيت هربا من صواريخ الغدر والخيانة، ألسن نساء يغزلن النثر والشعر في وقوفهن، وقوعهن، بكائهن من شمال غزة إلى جنوبها، يجلسن القرفصاء بأغطية الرأس يدارين أجسادهن بأسمال بالية يختبئن من الأقارب والأصحاب كي لا يرونهن بهيئة ليست كهيئتهن الدائمة، فهن جميلات مهندمات عزيزات النفس ومرفهات بحب عائلاتهن، هن صلبات قويات وقلوبهن كريش الحمام يبكين لأجل طفل بلا رأس، ويهدهدن سرير العالم بيد عارية، أنهن أديبات يلقين الحكمة على قلوب الناجين، وهن يحتضرن ويبتسمن في آن واحد..!  نساء غزة لم يعدن يجدن مكانا خاصا ولا عاما فقد نمن على أرضية المستشفيات، وعلى الأسفلت الأسود القاسي في الشوارع المبقورة، والبيوت المتصدعة، يجمعن أخشاب الشارع ليجعلنها بيتا حضنا أكبر علهن يجدن خصوصية من نوع آخر...!!

كم من كاتبة لازالت على قيد الحياة لازالت تبحث عن مساحة آمنة للكاتبة، حيث يتوفر الأمن والأمان والاستقرار كي تبدع...!! وتكتب وهي بحاجة لمكان قد يكون طاولة في المطبخ وقليل من المال لتكون مستقلة قادرة على الكتابة.!! كامرأة تحترق أكتب كامرأة تسمع عويل أحبابها وأصدقائها وحييها ومدينتها أكتب تحت الجنون القاتل الهائج الذي يخطف العائلات والأطفال والنساء احتلال بغيض يحصد قلوب الفتيات الصغيرات، بفتك بأحلامهن...!! كامرأة تدرك مناجاة أحبائها التي لا تقال فليس كل ما يعاش يقال، لا ماء نظيف للشرب، لا ماء للاستحمام، لا طعام يسد رمق كسرة الظهر اليومية، سوى النذر اليسير من معلبات لم تكن يوما ذات معنى، لا دواء فالمرضى يتألمون بصمت، لا نظافة شخصية والخشية من انتشار الأمراض، ومن لم يقتل بالصواريخ المحمومة سيموت مرضا، كارثة إنسانية في تاريخنا الحديث والكلام هو ذات الكلام، لا يسمن من جوع لا يدفئ من برد، أحلام مسروقة لازالت تسلب، نساء غزة يحتضن فاجعة تلو أخرى يطبطبن على الجرحى والمرضى والأطفال يخبئنهن في أعينهن إلا أن آلة القتل لازلت تحصد ولا تدع وقتا للحزن وللبكاء..!!

إن كتاباتنا وأمنياتنا تبقى أمنيات وما تسطره وتعيشه نساء غزة سيبقى لأجيال قادمة، وستصبح كلماتهن العامية وكلمات أطفال غزة أقوى من كل كتابات الأدب والشعر لأنه كتب بمداد أرواحهن النازفة، ودماء أطفالهن الطازجة التي ابتلعتها الحرب وألقتها في أتون جحيمها بعد أن نفثت النيران المستعرة في قلب غزة ونساء غزة وأطفال غزة...!!

27 أكتوبر 2023


تصوير: عبد الرحمن زقوت.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م