4 آلاف شهيدة.. نساء غزة عواتك ورياحين في مواجهة اللهب

تقف بين الركام تندب حظها العاثر، وتنادي أسماء بنيها الذي أنهى اللهب الإسرائيلي حياتهم على حين فجأة، وحولهم إلى أسماء طافحة بالحزن والألم، هنا يرتفع الصوت المبحوح مفعما بالنشيج؛ محمود، معتز، براء، آيات.

يتردد النداء قبل أن تكرر: "بدي أشوفهم" ولات حين لقاء، فقد تراكم البيت المعمور على سكانه وتلاقت أطنان الأسمنت والحديد على قاطنيه، ليكتب اللهب قصة أخرى لأم ثكلت أبناءها في لحظة.

وليست تلك الأم المكلومة إلا وجها من آلاف الأوجه الناطقة بمأساة المرأة الغزية، نكبة وترملا وثكلا، وصمودا ومقاومة، ورحلة حياة منجبة للأبطال والمقاومين.

وإذ بكت تلك الأم أبناءها الذين درجوا أمامها في البيت سنين عددا، فإن السيدة وفاء العرجة، تبكي هي الأخرى جنينها الذي انضاف إلى لائحة الشهداء وهو في شهره السابع، بعد أن أرغمتها القنابل والنزوح على السير عدة كيلومترات انتهت بإجهاضٍ عبر عملية قاسية، أنقذت حياتها لكنها ألحقت الجنين بمن سبقه من البراعم الموءودة جراء القصف والتدمير الإسرائيلي في غزة.

ولا تبدو الخيارات كثيرة أمام حوامل غزة، فمن نجت بروحها من القصف قل أن تنجو من الولادة المبكرة أو الإجهاض الذي قد يقود الأم والجنين إلى الشهادة في آن واحد.

ومن بين قرابة 2.2 مليون من سكان مدينة غزة، فإن 49% منهم نساء، وأغلبهن ما زلن في سن الشباب والإنجاب، مما يفاقم من أوضاعهن الصحية والنفسية جراء القصف والتشريد ويوميات الموت المسافر بين الأزقة والركام.

وتبدو قصص الحوامل واحدة من أفظع عناوين المأساة التي تعيشها الغزيات، حيث يقدر صندوق الأمم المتحدة للسكان عدد الحوامل بأكثر من 50 ألفا، بتن معرضات أكثر من غيرهن للموت أو الإجهاض وما يترتب عليه من مآس صحية متعددة، وتزداد المأساة ألما، حينما تتحول المستشفيات إلى مقانص للموت يتناثر الموتى بين ممراتها وفي غرفها، بدون أن تحميها ظروفها الإنسانية.

وفي النزوح كما في الإقامة تتعدد مهام النساء فهن مرضعات الصبية حليب المقاومة والصمود، في دورة زمنية لا تعرف لها بداية، حيث لا يمكن أن يميز هؤلاء ظلام الليل عن النهار بسبب الحمم والدخان والفزع الذي لا يدع للاجئين سِنة ولا نوما، ومع ذلك فإن المئات من السيدات النازحات تحولن إلى فريق إنقاذ إنساني، حيث يشرفن ويقمن بإعداد وجبات الطعام لمئات الآلاف من النازحين في تضامن إنساني عريق في غزة.

العواتك المقاومات.. أغاريد الشهادة وألحان الصمود

لم تكن جميلة الشنطي أولى شهيدات غزة، وإن كانت أرفعهن منصبا في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تقود المقاومة في غزة، حيث قضت النائبة والوزيرة السابقة في حكومة القطاع، وأول سيدة تدخل المكتب السياسي لحماس، قبل أن ينهار عليها بيتها إثر قصف إسرائيلي، لتحلق في مدارج الشهادة بعد عمر من النضال والمقاومة.

تنتمي الشنطي إلى جيل نسائي مقاوم، دفع من عواتكه لحد الآن أكثر من 3920 شهيدة وفق آخر تحديث لحصيلة لأعداد الشهداء أصدرها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.

ويزداد عدّاد الشهادة كل يوم بأسماء جديدة من نساء وفتيات غزة، ومن كل قطاعات المجتمع وتخصصاته المهنية.

ومن بين قصص المأساة النسائية تبرز الصحفية الفلسطينية آيات خضورة التي وثقت آخر أوقات حياتها عبر مقطع فيديو، متوقعة أن يكون وقد كان، لتتحدث عن الموت المرتقب جراء القنابل الفوسفورية التي يلقيها الاحتلال على مشروع بيت لاهيا وعلى مختلف مناطق غزة.

وفي يوميات الثكل النازف، تقود الأمهات الفلسطينيات المقاومة ويشاركن في التصدي العسكري للاحتلال. وتظهر المقاطع المتداولة أكثر من حالة لنساء فلسطينيات يحتفين بالنصر أو غنم سلاح جندي إسرائيلي، أو أخريات يتحدثن عن العودة المأمولة.

ويظهر مقطع فيديو متداول سيدة نازحة تثبت ابنتها الصغيرة وتؤكد لها أن العودة حلم قريب "جدك يبلغ من العمر 80 عاما، وقد نزح مرتين، وأنت تبلغين من العمر 8 أعوام، وقد نزحت مرة واحدة.. الله معنا، ونحن أقوياء، وسننتصر ونعود إلى ديارنا، إن شاء الله، ورغم كل الشهداء والأسرى والجرحى والصعاب، ولن نستسلم أبدا".

وتضيف المرأة نحن نازحون صحيح؛ ولكن هناك شعور في داخلي، أنني سأعود إلى بلدي ويقيني في الله كبير".

وخلال الأيام الماضية نقلت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من اللقطات المؤثرة والصور المعبرة من أرجاء غزة، من بينها صور تلك الأم الغزية التي نزحت من شمال القطاع إلى جنوبه تحمل حقيبتين على ظهرها وتجر طفليها سيرا على الأقدام لمدة 5 ساعات وفي أجواء بالغة الخطورة.

 

ومثلها آلاف الأمهات والفتيات اللائي طردهن الاحتلال وأجبرهن على مغادرة بيوتهن حاملين القليل من الأمتعة والكثير من الألم، هذا على افتراض بقائهن على قيد الحياة ونجاتهن من الموت المحقق تحت موجات القصف التي لا تتوقف ليلا ولا نهار.

وقد توقف الكثيرون أمام حالة الحاجة إنعام، تلك التسعينية الغزية التي عاشت النكبة الأولى طردا وتهجيرا وهي في عز شبابها، في العام 1948، ثم عاشت "فصولها" مرة أخرى في العدوان الحالي وقد احدودب ظهرها وبلغت من الكبر عتيا، ومع ذلك اضطرت للسير مشيا على الأقدام لمسافات طويلة.

مناجم البطولة

يرى كثير من الفلسطينيين أن العواتك الغزيات يمثلن منجم البطولة والفداء، فأغلبهن يلتقين أخبار استشهاد فلذات أكبادهن بالحمد والزغاريد، ويغرسن قيم المقاومة في الأجيال منذ نعومة الأظافر التي تحفر الصخر وتواجه اللهب.

وعلى تعاقب الأجيال، ظلت النساء في فلسطين عنصرا خالدا من المقاومة، يخلد التاريخ والأدب أدوارهن وفق ما يروي الشاعر الفلسطيني توفيق زيَّاد في ديوانه الأم:

لا تعذُلي! لولا حليبك في دمي… ما شرف القيد الملوث معصمي

لولاه ما ضج الطغاة ولا شكا… ليل العبيد توثبي وتقحمي

ولأن ليل العبيد -كما يقول قادة المقاومة وأنصارها- يتمزق أمام سطوة المقاومة، والطغيان الإسرائيلي يتخرق بين الحين والآخر بأيدي المقاومين والعواتك الصابرات، ستظل نساء غزة شجرة زيتون لا تسقط إلا لتنبت من جديد، وواحة ليمون مقاوم، وكل ليمونة ستنجب طفلا، ومحال أن ينتهي الليمون.

المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي