Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"في غزة" الصورة أصبحت بالصورة والمحتوى أظلم

لقطات احتفاء مقاتلي "حماس" بأسر إسرائيليين وفتيات أضرت الحركة لدى الغرب

طفل فلسطيني يحمل أغراضه فارا من القصف الإسرائيلي على غزة (أ ف ب)

ملخص

تتوقف الملايين عند هذه الصورة أو تلك القادمة من غزة أو من إسرائيل البعض يدقق فيها ويشعر بغصة في حلقه وقبضة في قلبه ثم يبحث عن هوية المقتول وجنسية القاتل وبناء على النتيجة يكون وجهة نظره ويوجه رؤيته وموقفه بناءً على الصورة

من وكالة الأنباء إلى المواقع الخبرية، ومنها إلى صفحات الـ"سوشيال ميديا" وهواتف ملايين البشر وخلفيات استوديوهات التلفزيون على الهواء مباشرة، من أرض المعركة إلى بيت المتلقي، الصورة يتم تداولها في الحرب الدائرة رحاها في غزة وإسرائيل، وتفرض نفسها عاملاً صانعاً ومحدداً للرأي العام لملايين البشر في كل بقاع الأرض.

تتوقف الملايين عند هذه الصورة أو تلك، البعض يدقق فيها ويشعر بغصة في حلقه وقبضة في قلبه، ثم يبحث عن هوية المقتول وجنسية القاتل، وبناء على النتيجة، يكون وجهة نظره ويوجه رؤيته وموقفه بناءً على الصورة.

صور فوتوغرافية متدفقة

الصور الفوتوغرافية المتدفقة من مواقع الصراع الدامي المحتدم منذ أيام تبدو كسنوات قياساً بكم صور الدمار والدماء تغمر البيوت والشاشات في كل أنحاء العالم. قد لا تتوقف الملايين عند نشرات الأخبار والتغطيات المستمرة والأخبار العاجلة، أو تتكبد عناء البحث عن الأخبار على المواقع، لكن الجميع تستوقفه صورة.

فلسبب ما، وعلى رغم سطوة الفيديوهات والبث الحي، بل وإمكانية مشاهدة الحرب على الهواء مباشرة حيث القصف بينما يحدث والقتل بينما يقع وسفك الدماء بينما تراق، فإن الصورة الفوتوغرافية تقدم نفسها في الحرب الدائرة حالياً باعتبارها عاملاً مهماً في ترجيح كفة الحرب وتشكيل الرأي العام.

الرأي العام هذه المرة أمام طوفان من الصور التي تمكن كل منها من التقاط لحظة تبدو أنها الأبشع أو الأفدح أو الأقسى، إلى أن تظهر صورة أخرى تفوقها في البشاعة وهلم جرا. الجميع يتداول صوراً، والجميع يبحث عن صور، والصور تثبت منذ السبت 7 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري أنها نبع لا ينضب لكنها أيضاً نبع بلا صاحب أو رادع أو مدقق.

التدقيق في الوارد

التدقيق في الأخبار الواردة من غزة وإسرائيل وجنوب لبنان، لا سيما تلك التي يضخها ويتناقلها مواطنون عاديون، وليست قنوات أو مواقع إخبارية، أمر بالغ الصعوبة.

وحين يتم تداول الصور نفسها على أثير القنوات التلفزيونية الإخبارية الغربية والعربية على حد سواء، تتسع ساحة تشكيل وتوجيه الرأي العام ويصعب فرض قيود بغرض التدقيق، أو وضع قواعد يعتمد عليها في ظل اشتعال المشاعر الغاضبة والواقفة على طرفي نقيض في جميع أنحاء العالم مرتكزة على صورة فوتوغرافية.

 

 

الصورة الفوتوغرافية تلعب منذ عقود طويلة دوراً حيوياً في إدارة الأزمات والصراعات من خلال صناعة الجدل حولها. وكما تشير دراسة عنوانها "حرب الصورة: توظيف الصورة الصحافية في الحروب والثورات" لأستاذي الإعلام شريف اللبان وسارة ياسين (2015)، فإن الصورة الصحافية باتت قادرة على إضفاء الشرعية على بعض الأطراف، وفي الوقت ذاته تجريد أطراف أخرى من الشرعية، وإبراز قضايا معينة وتجاهل أخرى.

وتشير الورقة إلى عشرات الأمثلة التي لعبت فيها الصورة الفوتوغرافية دوراً محورياً، إن لم يكن في إدارة المعركة، ففي ترجيح كفتها، وإن لم يكن هذا أو ذاك، ففي تشكيل رأي عام هادر مؤيد لطرف ومناهض لآخر.

نماذج الحروب

حرب فيتنام والصراع في جزر فوكلاند وخليج الخنازير في كوبا وغزو بنما وأزمة الرهائن الأميركيين في إيران والغزو الإسرائيلي للبنان والحرب العراقية الإيرانية والصراع العربي - الإسرائيلي وحرب الخليج الثانية وأحداث الصومال والبوسنة وكوسوفو وانتفاضة الأقصى والقضية العراقية في تسعينيات القرن الماضي، وبقي القوس مفتوحاً لينضم "هجوم حماس" وبعده "الرد الإسرائيلي" مثالاً واضحاً للقدرات الهائلة للصورة الفتوغرافية، وربما الأهم منها قدرات توظيف وتحريك وتوجيه الصورة، كل بحسب توجهاته.

ويشير الباحثان إلى أن الصور الصحافية في الحروب كثيراً ما لعبت أدواراً عدة عبر التاريخ، من أهمها أنها أداة مهمة لتوثيق فترات حاسمة في تاريخ المجتمعات، لا لمن يعيشها فقط، بل لأجيال أخرى لم تعش الحدث، كما أنها وسيلة فعالة، إن لم تكن الأكثر فاعلية في جذب تعاطف الرأي العام، وأحياناً صناعته وربما حسم المعركة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عن حسم المعركة بفعل أو بفضل صورة، أشار المؤلفان مارشال ماكلوهان وكوينتين فيور في كتابهما الشهير "الحرب والسلم في القرية الكونية" (1968) إلى تجربة الصورة الفوتوغرافية كأداة حاسمة في حرب فيتنام، "إذ لم يعد المواطنون مشاهدين للمعارك، بقدر ما أصبحوا مشاركين بالآراء والمواقف التي أحياناً تتعارض مع العسكريين".

ومعروف أن الأثر النفسي الذي تركته صور الأسرى الأميركيين جعل من الصورة سلاحاً حاسماً لتغيير السياسة الأميركية.

مباركة الكوكب

السياسة الأميركية المتبعة حالياً كرد فعل على "هجوم حماس"، ومعها حزمة السياسات الأوروبية تتخذ من الصورة الفوتوغرافية، إضافة إلى الفيديوهات، عاملاً رئيساً يوجهها ويمدها بظهير التأييد الشعبي ويمنحها مباركة جزء من الكوكب.

صور مقاتلي "حماس" وهم يحتفون بأسر عدد من الإسرائيليين وجنسيات أخرى تصادف وجودها في مهرجان موسيقي في 7 أكتوبر الجاري أثارت ردود فعل جديرة بأن تلخص موقف الرأي العام العالمي من القضية الفلسطينية في ضوء صور "هجوم حماس". إنه موقف يحتوي على نقيضين يقفان على جبهتين أيديولوجيتين وثقافيتين متنافرتين تماماً.

تحت عنوان "حماس خسرت بالفعل حرب الصور"، كتب الصحافي الأميركي في "بلومبيرغ" بوبي غوش مقال رأي فيه عن "صور الشابات شبه العاريات اللاتي طاف بهن مقاتلو (حماس) أرجاء غزة مع التكبير، وصورة السيدة المتقدمة في العمر الجالسة في عربة غولف إلى جوار مقاتلين يرتدون السواد ويلوحون بالبنادق أمام الكاميرات، فيما يفترض أن تكون المشاهد أكبر انتصار للحركة. وكما هي العادة في العمليات الحركية، كانت حماس حريصة على سفك الدماء أولاً في حرب الصور، وذلك لإلهام مؤيديها وإحباط معنويات عدوها".

تأييد واستنكار

ويرى غوش أن صور "الضحايا" الإناث الشابة والمتقدمة في العمر أسفرا عن نتائج عكسية، لا سيما أنهما مدنيتان. الصور - في رأي الكاتب - أفضت إلى اشمئزاز واستنكار واسعي النطاق، بل وعززا تصميم إسرائيل على الانتقام.

وأضاف أنه بسبب هذه الصور والفيديوهات فقدت "حماس" أي حق في الادعاء بأن الهجوم كان مظهراً من مظاهر "المقاومة المشروعة". وبدلاً من ذلك، تم الكشف عن المجموعة أمام العالم المرعوب بسبب الصور، باعتبارها "منظمة إرهابية".

 

 

لكن "المنظمة" نفسها وعمليتها ذاتها والصور "البشعة" "المثيرة للاشمئزاز والاستنكار" نفسها أسفرت عن موجة تأييد وتعضيد، واعتبار أن ما جرى نتيجة طبيعية لتجاهل القضية والتعامي عن الحقوق الفلسطينية وغض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية في أطراف أخرى من العالم حيث ملايين أخرى متابعة للمشهد.

العين بالعين

وعلى رغم خفوت وتيرة تبادل هذه الصور التي بثتها أذرع إعلامية فلسطينية في بدء العمليات، تصاعدت أصوات من بين المؤيدين للقضية الفلسطينية والمنادين بحق أبنائها والمدافعين عن الأرض في وجه إسرائيل للتوقف من منطلق أن الصور تلحق الضرر بالقضية أكثر مما تفيدها، إلا أن قطاعاً غير قليل من المتلقين في المنطقة العربية والإسلامية اعتبر الصور والفيديوهات نقطة في بحر الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على مدى عقود، ومن ثم لا ضرر ولا ضرار من نشرها وإعادة تداولها على اعتبار أن العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.

يرى البعض أن الظلم الحقيقي هو ذلك الذي لحق بالقاعدة العريضة من الفلسطينيين التي تدفع ثمن كل من "هجوم حماس" و"الرد الإسرائيلي" من دون أن يستطلع أحد رأيها أو موقفها أو تقييمها لما سيسفر عنه الطوفان من سيوف! أولئك يطلقون دعوات ومناشدات على أثير منصات الـ"سوشيال ميديا" للتوقف عن بث هذه الصور الأولية، والتركيز على صور الدمار الذي لحق بغزة، وآلاف الفلسطينيين الذين قتلوا وأصيبوا ونزحوا وتشردوا وباتوا مهددين بالجوع والمرض في ظل الحصار الشرس المفروض على غزة.

غزة تحولت إلى صور

غزة تحولت في هذه الحرب الضروس إلى صور. آلاف الصور الملونة التي تحولت بفعل الواقع إلى أبيض وأسود يجري تداولها على شاشات التلفزيون والمواقع الخبرية وصفحات الـ"سوشيال ميديا".

الغالبية المطلقة من هذه الصور إما يلتقطها مصورون صحافيون، أو مواطنون أو عمال إغاثة أو يجري التقاطها جواً. الركام والخراب والدمار جعل غالبية الصور بلونين لا ثالث لهما، باستثناء ظهور سكان ينبشون في الركام عن بقايا متعلقات.

"السوق" الفعلية لهذه الصور، وغيرها من الصور الملتقطة على أبواب المستشفيات المتخمة بالمصابين والقتلى، ولقطات توثق بكاء فلسطينيين على ذويهم وأبنائهم وأصدقائهم الذين قضوا في قصف هنا أو دك هناك، هي السوق العربية والإسلامية. صحيح أنه يجري نشر بعضها في وسائل إعلام غربية، وربما من قبل البعض من مناصري القضية الفلسطينية على صفحاتهم العنكبوتية، إلا أن الرواج الأكبر والتشارك الأعلى يجري عربياً وإسلامياً.

قدر أقل من التعاطف

ويلاحظ أن كثيراً من هذه الصور المنشورة في الغرب باتت تلقى قدراً أقل من المعتاد من التعاطف والتأييد للجانب الفلسطيني، وذلك على رغم بشاعتها وعدم افتقادها أياً من العوامل السابقة التي كانت تجذب التأييد للفلسطينيين وقضيتهم. الفرق الوحيد هذه المرة ليس فقط أن العين بالعين، لكن الصورة أيضاً أصبحت بالصورة، والمحتوى أظلم.

محتوى الصور المؤكدة والموثقة، سواء التي تصور "ضحايا" إسرائيليين ودماراً لحق بمدن ومستوطنات إسرائيلية أو تلك التي تصور "ضحايا" فلسطينيين وما لحق بغزة من دمار وخراب، يجد نفسه أمام عامل ثقافي حاكم ونافذ وفاعل، ربما للمرة الأولى في تاريخ الصراع المزمن.

مشاهد جذب الشابات الإسرائيليات من شعرهن، أو دفعهن "شبه عرايا" للركوب على دراجة نارية بين مقاتلي "حماس" أو قتل أو إصابة مرتادي مهرجان موسيقي أو سكان مستوطنة مع صور البيوت المحروقة أو المهدومة في بعض المستوطنات، تقف في مواجهة مشاهد دك أبراج سكنية على رؤوس سكانها في غزة وتدمير مساجد وتشييع آلاف الجثامين من ضحايا القصف ومشاهد المستشفيات وبرادات حفظ الموتى وصراخ النساء والأطفال وبكاء الرجال.

مجموعتان من الصور

جزء لا يتجزأ من الحرب الضروس الدائرة حالياً هي بين مجموعتي الصورتين وما يستجد عليهما بحسب مجريات كل يوم من أيام الحرب. وكل فريق من الفريقين ينافس الآخر في عرض ونشر الصور، لا سيما تلك التي من شأنها أن تضمن جذب وتعاطف الرأي العام.

"أحد أهم محركات وموجهات ومكونات الرأي العام، لا سيما في أوقات الحروب والأزمات هو الصورة، لكن أية صورة؟" يتساءل المصور الصحافي المخضرم ومؤسس شعبة المصورين الصحافيين في نقابة الصحافيين المصرية عمرو نبيل.

 

 

يقول نبيل في حديثه لـ"اندبندنت عربية" إن هناك قواعد ومعايير أخلاقية تضعها اتحادات الصحف أو النقابات الصحافية، وكذلك المؤسسات الصحافية والإعلامية مثل وكالات الأنباء في شتى أرجاء العالم، ويجري تحديثها والتذكير بها عبر نشرات دورية مستمرة.

ويضيف "هناك قواعد ينبغي على المصور الصحافي أن يراعيها أثناء وبعد التصوير. مثلاً الصور التي فيها دماء، سواء في حوادث أو حروب أو كوارث ترفض نشرها وكالات الأنباء العالمية الكبرى، بما في ذلك صور ذبح الأضاحي مثلاً. ليس هذا فقط، بل يكتب على الصور التي تعكس قدراً من العنف تنبيهاً يحذر من محتواها".

صور الحقيقة من دون انحياز

يشرح نبيل المعضلة التي يجد فيها المصور الصحافي فيها نفسه، لا سيما في أوقات الكوارث والحروب، إذ يتحتم عليها تقديم صور تعبر عن الحقيقة وما يجري على أرض الواقع، لكن في الوقت نفسه من دون خرق لأخلاقيات الصور الصحافية.

ويقول "لكن هناك فرق بين مصور المعمل الجنائي والمصور الصحافي. وأنا كمصور صحافي مطلوب مني نقل الحقيقة بالصورة، ولكن من دون شرط القرب الشديد أو التركيز الزائد على التفاصيل الدقيقة لأجساد متفحمة مثلاً أو جثامين ملقاة أو ما شابه. بالطبع تخالج البعض رغبة في أن يصور التفاصيل لنقل حالة الفزع الحقيقية الموجودة على أرض الواقع، لكن على المصور الصحافي ألا يقع في هذا الفخ إذ ينبغي اخترام أخلاقيات الصورة الصحافية حتى في الحروب".

فخ آخر يجد المصور الصحافي نفسه فيه في حالات الحروب، وهو أن معظم المصورين الصحافيين يوجدون في ساحة المعركة "في حماية" جيش بعينه. يقول نبيل "غطيت حروباً عديدة، منها مثلاً الحرب بين إريتريا وإثيوبيا، حيث كنت مع الجيش الإريتري. صحيح أنني لا أنحاز للجانب الإريتري، لكن في الوقت نفسه على المتلقي أن يعلم أن ما يسمح للمصور الصحافي بتغطيته في الحرب هو ما يكون متاحاً من قبل الجيش الذي يوجد معه وفي حمايته، لكن في الوقت نفسه يكون هناك مصورون صحافيون تابعون لوكالة الأنباء ذاتها (أو هكذا يفترض) مع الجيش المقابل. ويتم نشر الصور وبثها مع الإشارة إلى وجود المصور الصحافي الذي التقط هذه الصورة مع الجيش الفلاني، وذلك ضماناً للصدقية والحياد وإخبار المتلقي بالجانب الذي تم التقاط الصور منه".

ويشير عمرو نبيل إلى الحرب الدائرة رحاها حالياً التي تتبع الوكالات والمؤسسات العالمية المعايير نفسها، إذ يوجد مصورون للمؤسسة الإعلامية نفسها على الجانبين.

أثير المواطن الصحافي

وبعيداً من هذه المقاييس المهنية بالغة الصرامة، التي من شأنها أن تضمن صوراً صحافية متوازنة لا تنحاز لطرف على حساب آخر، فإن الأثير عامر بكم هائل من الصور مجهولة المصدر أو بمعنى آخر المنسوبة إلى "صحافة المواطن".

وفي "هجوم حماس" و"الرد الإسرائيلي" نسبة معتبرة من الصور المتداولة هي لمواطنين فلسطينيين وكذلك إسرائيليين، وكثيراً ما تضيع الإشارة إلى مصدر الصورة ومكان وتوقيت التقاطها في زحام الأثير.

ليس هذا فقط، بل تم استخدام صور من دمار غزة على أنها في مستوطنات إسرائيلية، ولقتلى وقعوا في حروب سابقة وربما في مواقع أخرى من العالم على أنهم قتلى هذه الحرب، لكن المتلقي قلما يتوافر له الوقت أو الجهد أو الرغبة للبحث والتدقيق في الصور التي يتعرض لها على مدى الدقيقة، والتأكد من صدقيتها. وحتى لو حدث ذلك فيكون الأثر النفسي للصورة قد تكون بالفعل.

نعمة الصورة ونقمتها

يقول المصور الصحافي عمرو نبيل إن العالم قبل عام 2000 لم يتعرض لهذا الكم من صور "المواطن الصحافي". توافر الكاميرات والهواتف المحمول في أيدي مليارات البشر قلب موازين الصورة الصحافية، وهذه الموازين تكون بالغة الخطورة في حالات الأزمات والحروب.

يضيف "هذه نعمة ونقمة. نعمة لأنه في المناطق الساخنة حيث الكوارث الطبيعية أو الحروب المفاجئة، كثيراً لا يتوافر، لا سيما في الأيام الأولى سوى المواطنين العاديين، لذلك تكون كاميرات هواتفهم المحمولة الوسيلة الوحيدة لإخبار العالم بما جرى".

ويضرب نبيل مثلاً بما جرى في درنة قبل أسابيع، فيقول "لم يوجد هناك في الأيام الأولى مصورون صحافيون، لكنني تواصلت مع عدد من المواطنين وتم توجيههم لالتقاط صور وفيديوهات باتباع قواعد بعينها، وكانت الصور والفيديوهات التي تم إرسالها النافذة الوحيدة التي أطل منها العالم على ما جرى في درنة في الأيام الأولى".

أما النقمة، فيقول نبيل إنه مهما كانت هذه الصور على درجة عالية من التحقق والتدقيق، تظل مسألة الأهواء وعدم وجود معايير أخلاقية حاكمة إضافة إلى قابلية المواطن العادي للانجراف وراء عواطفه أو توجهاته التي تخدم أهدافه كمواطن يتعرض للقصف أو التهجير أو ما شابه.

انجراف بدافع الوطنية

ويلفت نبيل الانتباه كذلك إلى انجراف البعض - بدافع الوطنية والرغبة في جذب الانتباه لقضية بلاده أو شعبه - لتركيب صور بحسن نية. فمثلاً، إحدى الصور التي يجري تداولها بكثرة على منصات الـ"سوشيال ميديا" حالياً تصور طفلاً لا يتعدى عمره عامين، يرتدي ملابس نظيفة تماماً وحذاءً جديداً ويحتضن لعبة ويرفع علم فلسطين ويجلس على تل ركام محاطاً بآثار الدمار والهدم في غزة.

ويرجح نبيل أن تكون هذه الصورة مركبة بنية رفع معنويات الفلسطينيين والعرب من جهة، وإبلاغ الجانب الإسرائيلي أن الإصرار على البقاء لا يلين. هنا يقول نبيل "الصور المزيفة تضر بالقضية، أي قضية".

والقضية - أي قضية - تحمل شقاً ثقافياً لا يمكن إنكاره. والصور التي يجري تداولها حالياً على إيقاع الحرب الدائرة رحاها تحمل وتعكس وتدق أوتار مكونات ثقافية بشكل غير مسبوق. ففي كل جولة من جولات الهجوم على غزة كانت الغالبية المطلقة من الصور أحادية الجانب.

معظم الصور كان لغزة المدمرة، وأهل غزة المقتولين أو المصابين أو النازحين، في مقابل "غطرسة" الجنود الإسرائيليين. وحتى في حوادث التعدي على فلسطينيين من قبل "مستوطنين" إسرائيليين، ظلت الصور تتحدث عن طرف باغ معتد هو إسرائيل، وطرف معتدى عليه مغلوب على أمره.

مغبة الاعتداء

هذه المرة، الصور المتداولة من قبل الجانبين تحتمل تحميل كلا الطرفين مغبة "الاعتداء". وما يدغدغ مشاعر المتلقي في مغارب الأرض كثير، كما أن ما يدغدغ مشاعر المتلقي في مشارقها أيضاً كثير. وما زالت الحرب دائرة، وما زالت الصورة متواترة، وما زالت الدغدغة مستمرة في انتظار ما ستسفر عنه الصورة من أثر في الرأي العام هنا وهناك. جزء مما يجري حالياً هو حرب الصورة، أكثر من كونها صورة الحرب.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات